“الغزوات” العربية في روايات المغلوبين: بين التفسيرات اللاهوتية والواقعية… لماذا حدثت “الغزوات” في نظر المغلوبين؟
التصورات الحديثة للمستشرقين حيال “الغزوات” كانت بعيدة عن تصورات كتّاب الحوليات من البيزنطيين والفرس أو مسيحيي المشرق في القرنين السابع والثامن، الذين ربطوا “الغزوات العربية” بمعطيات الغيب، بفعل غياب الأدوات المعرفية التي لم تكن لتتجاوز آنذاك الأدبيات الدينية واللاهوتية.
انطلقت “الغزوات” عام 634م؛ أي بعد عامين من وفاة النبي ، وغداة نجاح أبي بكر في قمع حركات الردة في شبه الجزيرة العربية.
يومذاك، كانت الدولتان، البيزنطية والفارسية-الساسانية، قد خرجتا للتو من حرب طويلة ومدمرة بينهما… ومن ثم، لم تكونا مستعدتين لمواجهة أي خطر يستعد لمفاجأتهما من الصحراء.
ضعف شامل ذاك الذي يقيم به المؤرخون حالة الإمبراطوريتين عشية “الغزوات”. الأسرة الساسانية الحاكمة في الحالة الفارسية عانت صراعات داخلية عدة، في حين كان الأساس الديني-الإيديولوجي في بيزنطة قد تصدع نتيجة سلسلة طويلة من الانشقاقات الكنسية.
وبشبه إجماع، عدّت الشعوب المغلوبة “الغزوات العربية” عقابا من الله على ذنوب يعود بعضها إلى الخلافات الداخلية المتعلقة بالإيمان والصراعات بين الكنائس المختلفة، وبعضها الآخر إلى “موبقات” يرتكبونها في حياتهم اليومية.
كُتاب الحوليّات والكهنة، يومها، كانوا قد توقعوا حصول “الغزوات” التي تحدثت عنها كتب الأولين…
جاءت في أكثر من مصدر قديم، أخبار عن سيوف من الشهب ظهرت في سماء سوريا وبلاد ما بين النهرين، قبل أعوام أو أشهر من بداية “الغزوات” ومن سقوط ممالك الروم والفرس.
في محاولة منه لشرح الخلفية التي ظهرت “الغزوات” عليها، يقول المؤرخ الأرمني سيبيوس الذي عاش وكتب في القرن السابع، إن رجلا ظهر بين العرب وأعاد الاعتبار إلى صلة النسب التي تربطهم بإسماعيل (بإيحاء من اليهود) وقرر دفع بني قومه إلى استعادة الأرض الموعودة في فلسطين.
سيبيوس يضيف: “مرة أخرى ينبغي علي الحديث عن الشر الذي نزل بنا في زماننا هذا، وكيف تمزق رداء الإيمان القديم وكيف نفث القيظ الجاف رياحه علينا وأحرق الاشجار المورقة الجميلة الباسقة في بساتيننا الحانية. هذه هي الحقيقة؛ لأننا ارتكبنا الإثم ضد الرب وأغضبنا قديس إسرائيل”.
وتقول الحوليات الجورجية، التي يعتقد أنها صيغت في القرن الثاني عشر كحصيلة لجمع عدد من الوثائق الأقدم، إنه “ما من أحد قادر على تسجيل الكوارث التي مر المسيحيون بها بسبب السراسنة الذين كانوا يسمون في السابق “كأغرت أكناك”. وقد ذكر التوراة أن ألسنة الكأغرت ستلعق دماء الأبرياء”.
نلاحظ هنا بوضوح هذا الربط بين ما حدث وما اعتقد هؤلاء أن التوراة قد نبه إليه.
وقد دعا يوحنا من “فنك أو بنك” (تقع على ضفة نهر دجلة)، عاش في النصف الثاني من القرن السابع، إلى عدم اعتبار ظهور أبناء هاجر أمرا عاديا، بل “أخذه كنتيجة عمل إلهي؛ فعندما جاء هؤلاء الناس، بأمر من الله، واستولوا على ما كان للمملكتين (البيزنطية والفارسية)… وضع الله النصر بين أيديهم كما لو أن الكلمات التي تعنيهم تنفذ بحذافيرها: رجل يطارد ألفا واثنان يهزمون عشرة آلاف (سفر التثنية، الإصحاح 32، الآية 30). وإلا، كيف أمكن لعراة يمتطون (جيادهم) من دون دروع أو تروس أن يفوزوا، في غنى عن المساعدة الإلهية؟ لقد دعاهم الله من أقاصي الأرض حتى يدمر بهم “مملكة آثمة” (سفر عاموس، الإصحاح التاسع، الآية 8) وحتى يذل بهم روح الفرس المتفاخرة”.
هذا الشعور بالذنب يصل بمستويات دفعت مؤرخين مسيحيين إلى وضع الاتهامات بارتكاب المسيحيين للخطايا على ألسنة القادة المسلمين.
ينسب ميخائيل السرياني (بطريرك الكنيسة السريانية الأرثوذوكسية في العصور الوسطى)، مثلا، إلى معاوية بن أبي سفيان قوله أثناء قيادته الحملة التي أعقبت استيلاءه على قيصرية فلسطين: “نحن صاعدون إلى بلد مليء بالذهب وبالثروات من كل صنف. لقد وضع الله هذه البلاد بين أيدينا بسبب آثام سكانها”.
بعد هذه التفسيرات القديمة، لنلق الآن نظرة على التفسيرات التي قدمها المستشرقون الحديثون، بعدما عاد الغرب إلى الاهتمام بـ” الغزوات العربية”، للمقارنة بين منهجين، قديم وحديث، في فهم التاريخ من وجهة نظر الآخرين.
يذهب ويليام مويير William Muir إلى أن التزايد السكاني الكبير في شبه الجزيرة العربية جعل الاكتظاظ مشكلة غير قابلة للحل سوى عبر “الغزوات” والاندفاع إلى خارج المناطق الفقيرة كـ”أسراب الجراد التي سودت وجه الدنيا”.
ذاك ما يرفضه ليوني كايتاني Leone Caetani الذي يذهب إلى أن أعداد العرب والمسلمين لم تكن كثيفة، من دون أن ينفي وجود مشكلة اقتصادية جراء القحط ساهمت في دفع العرب إلى الهجرة ومن ثم الاصطدام بالبيزنطيين وبالفرس.
أما هنري لامنس Henri Lammens فيعيد السبب، من جهة، إلى طبيعة العرب الميالة إلى القتال والغزو، وبروز قدرة تنظيمية عسكرية متفوقة على أعدائهم جراء الخضوع التام للأوامر عند الجنود، والمستقى من الطاعة القبلية للكبار، وإلى عنف مفرط في التعامل مع العدو، من جهة ثانية.
هذا فيما يجزم ألكسندر فاسيلييف، صاحب “تاريخ الإمبراطورية البيزنطية”، أن البدو الذين شكلوا الأكثرية الساحقة من جنود “الغزوات” لم يكن لهم من هم سوى السلب والنهب، وكانت معرفتهم بالإسلام معرفة سماعية فقط، مشددا على غياب العامل الديني في “الغزوات ”.
ويستنتج برنارد لويس Bernard Lewis استنتاجا مشابها بقوله إن “ الغزوات العربية” توسع للأمة العربية وليس للإسلام، بسبب الاكتظاظ الديمغرافي… وساعد في نجاح الفتوحات أن السّدّين الفارسي والبيزنطي، اللذين أمكنهما التصدي لمواجهة الغزوات والهجرات العربية، كانا ضعيفين.
بحسب غيبون Gibbon، فإن هذا الضعف هو تحديدا ما يدين له العرب بانتصاراتهم؛ إذ يرى أنه… لو ولد محمد في أيام القيصرين تراجان أو قسطنطين أو الملك شارلمان، لكان “هؤلاء تمكنوا من صد هجمات السراسنة العراة، ولكانت الحماسة الدينية قد ضاعت في رمال الصحراء”.
ببساطة، يرى هؤلاء أن القول بأولوية الدافع الديني الإسلامي ليس كافيا لتفسير الانتصارات، مقابل القول بأن الطرف الآخر كان ضعيفا.
التصورات الحديثة للمستشرقين حيال “الغزوات” إذن، كانت بعيدة عن تصورات كتّاب الحوليات من البيزنطيين والفرس أو مسيحيي المشرق في القرنين السابع والثامن، الذين ربطوا “الغزوات العربية” بمعطيات الغيب، بفعل غياب الأدوات المعرفية التي لم تكن لتتجاوز آنذاك الأدبيات الدينية واللاهوتية.
المصدر:مواقع ألكترونية