الغزوات” العربية في روايات المغلوبين: “غزو مصر”
كانت مصر البيزنطية عشية “الغزو العربي” تخضع لحكم سيروس (المقوقس أو سيرس بحسب التسمية العربية)، الذي عينه هيراكليوس (هرقل) عام 631م في منصبي حاكم مصر وبطريرك الإسكندرية الملكي-الخلقيدوني.
كان التوسع صوب مصر مطروحا أمام القادة العرب قبل أن يكتمل “غزو” الشام… كانت المسألة، مسألة وقت وحسب.
ورغم ما كانت تمثله مصر للإمبراطورية البيزنطية، إذ كانت وحدها، كولاية، تضخ أكثر من ثلاثين بالمائة من إجمالي العائد الضريبي، إلا أن ذلك لم يشفع بالدفاع عنها… من يعجز عن استرداد سوريا وفلسطين، حتما يعجز عن الدفاع على باقي أراضيه!
الواقع أن القوات البيزنطية هناك كانت غير كافية أمام عدو متحفز دينيا ومتملك للمبادرة، تحت قيادة “داهية العرب” عمرو بن العاص، الذي كان خلفه عمر بن الخطاب.
كانت مصر البيزنطية عشية “الغزو العربي” تخضع لحكم سيروس (المقوقس أو سيرس بحسب التسمية العربية)، الذي عينه هيراكليوس (هرقل) عام 631م في منصبي حاكم مصر وبطريرك الإسكندرية الملكي-الخلقيدوني.
شكل وصول سيروس إلى مصر في الواقع بداية حملة اضطهاد واسعة ضد الأقباط لرفض هؤلاء مقررات المجمع الخلقيدوني، ما دفع بطريرك الأقباط الأنبا بنيامين إلى الهروب والتواري عن الأنظار.
وإذا كان المؤرخ ميخائيل السرياني (القرن 11م) يقول إن بنيامين اتجه إلى الطائيين (العرب) ووعدهم بتسليم الإسكندرية إذا عملوا على طرد سيروس وتسليمه الكنائس، فإن هذه الرواية تبدو متشابهة مع السرد العربي لأحداث “الغزو”، من ناحية وجود شخصية قبطية رئيسة أدت دورا مهما في تسليم مصر إلى العرب.
بيد أن هذا السرد يتعارض بشدة مع التاريخ شبه الرسمي للكنيسة القبطية، الذي وضعه ساويروس الأشمونين بعنوان “تاريخ البطاركة”، وصَوّر “الغزو العربي” كحدث مستقل عن إرادة المصريين.
هذه المخطوطة تقول ما مفاده إن هرقل رأى مناما تغلبه فيه أمة مختونة. ظن هرقل أنهم اليهود فأمر بتعميدهم. ثم، بعد أيام يسيرة، ثار رجل من العرب في مكة اسمه محمد، رد عبّاد الأوثان إلى معرفة الله وأن يقولوا… إن محمدا رسوله.
ساويروس يمضي في سرده للأحداث قائلا: “فلما تمت عشر سنين من مملكة هرقل والمقوقس وهو يطلب بنيامين البطرك وهو هارب… أنفذ ملك المسلمين (عمر بن الخطاب) سرية مع أمير من أصحابه يسمى عمرو بن العاص… فنزل العسكر الإسلامي إلى مصر بقوة عظيمة… وكان الأمير عمرو قد هدم الحصن وأحرق المراكب بالنار وأذل الروم وملك بعض البلاد…”.
يتحدث ساويروس أيضا عن الأمان الذي منحه المسلمون للمغلوبين شريطة دفع الخراج، ثم يقول إن عَمراً بن العاص، ملك مصر ثلاث سنين قبل أن يملك الإسكندرية ويهدم سورها ويحرق بِيّعا كثيرة بها.
الذي يهمنا هنا، أن ساويروس يقول إن رجلا اسمه سانتونيوس الدوكس، كان موظفا بيزنطيا تعاون مع عمرو، هو الذي أخبر الأخير بهروب البطريرك، فكتب عمرو إلى عمال البطريرك في مصر يخبرهم أن بإمكانه أن يحضر آمنا مطمئنا ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته.
حينها، تروي المخطوطة، عاد بنيامين إلى الإسكندرية بفرح عظيم، بعد غيبة 13 عاما، عشرة أعوام في عهد هرقل وثلاثة في عهد المسلمين، فـ”لما ظهر، فرح الشعب وكل المدينة، فأخذ منه الأمير عمرو الأمان”.
هذه المخطوطة بالتأكيد تهمل مجريات المعارك بسبب اهتمامها بتوثيق الأحداث التي تعني الكنيسة القبطية، لكن الذي يهمنا فيها روايتها المختلفة لـ” غزو مصر”.
الواقع أن حوليات يوحنا من نيقوس (حاليا قرية أبشاي في المنوفية، مصر) قد تكون الأكثر صراحة في تنديدها بكل ما جلبه “الغزو العربي” لمصر وفي سردها للمصائب التي أنزلها العرب بالأقباط.
هذه الحوليات تتحدث عن ذبح الإسماعليين (العرب) و”بلا رحمة”، للقائد البيزنطي ثيودوسيوس وجنوده وكل الأهالي بعد دخولهم إلى مصر، بل وكلما توغلوا أكثر، تصاعدت المجازر.
تتحدث أيضا عن تجريد عمرو بن العاص للقادة الرومان من ممتلكاتهم بعد اعتقالهم ومضاعفة الضرائب على الفلاحين وأمرهم بتزويد خيوله بالعلف.
يوحنا يضيف أنّ عَمراً ارتكب ما لا يحصى من أعمال العنف، حتى دب الذعر بين سكان مصر الذين هربوا صوب الإسكندرية تاركين أموالهم وقطعانهم، فيما استولى على كل ممتلكاتهم بمساعدة من اتبعوا إيمانه من المسيحيين.
المسلمون تابعوا ذلك في طريقهم إلى الاسكندرية، تضيف الحوليات. ثم، لما لمسوا ضعف الرومان وعدائية الشعب لهراكليوس، بسبب تعيينه المقوقس، أصبحوا أكثر جرأة وأقوى في الحرب.
أما بعد دخول عمرو إلى الإسكندرية، فلم يرتكب جنوده أعمال سلب ضد الكنائس، لكنه زاد الضرائب زيادة هائلة “حتى باع المصريون أولادهم لدفع الضريبة”.
ما من داع هنا إلى القول إن قصة يوحنا لـ”فتح مصر” تتنافى مع الرواية العربية… ما يهمنا فيها؛ تصوير المزاج القبطي غداة “الغزو العربي”، الذي لا يبدو متفقا مع الأجواء التي ترسمها المصادر العربية عن ترحيب المصريين بـ”الغزاة” العرب.
الغزو العربي أسرف الباحثون الغربيون في الحديث عن إحراق مكتبة الإسكندرية كدليل على همجية “”.
هذه القصة يرويها أبو الفرج غريغوريوس ابن العبري، ويقول فيها إن رجلا اسمه يوحنا فيليبونوس، طلب كتب الحكمة التي في خزان ملوكية، فقال له ابن العاص: “لا يمكنني أن آمر فيها إلا بعد استئذان أمير المؤمنين”. ثم كتب إلى عُمر، فرد عليه هذا: “وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه فتقدم بإعدامها”.
وكذلك فعل، تروي القصة.
بعد تقليب القصة على وجوهها، يخلص المستشرق الإنجليزي ألفريد بتلر إلى عدة استنتاجات تنفي صحتها:
ظهرت القصة أول ما ظهرت بعد أكثر من 500 عام من الحدث الذي تتحدث عنه؛ تحليل تفاصيل القصة يقود إلى تبيان عبثيتها. الشخصية الرئيسية فيها (يوحنا فيليبونوس) كان قد مات قبل زمن طويل من اجتياح العرب لمصر. اثنتان من كبريات المكتبات التي يمكن أن تكون القصة تشير إليهما كانتا قد اختفتا من الوجود قبل مئات الأعوام من “الغزو العربي”. أدبيات القرون الخامس والسادس والسابع لم تتضمن أي ذكر لهذه المكتبة.
ثم إنه، في حال وجدت مكتبة كهذه عندما سلم المقوقس الإسكندرية، من المؤكد أن الكتب كانت لتنقل، وفقا لمادة في معاهدة الاستسلام، تسمح بنقل كل المواد القيمة طوال أحد عشر شهرا من الهدنة التي تفصل بين توقيع المعاهدة والدخول الفعلي للعرب إلى المدينة.
الخلاصة حسب بتلر، أن القصة لا تعدو أن تكون خيالية. تفنيد لا يختلف عن ذاك الذي ساقه المؤرخ الإنجليزي إدوارد غيبون للقصة، مبرئا عمرو بن العاص من تلك التهمة.
لكن هذه مجرد تأويلات لإبعاد التهمة عن الغزاة العرب فالأسكندرية بكاملها كانت تحت السيطرة والهيمنة والمراقبة الشديدة ومن الصعب تنقل الكتب أو الذهب أو الكنوز المختلفة أو إخفائها وخاصة أنها تعد بالألاف وعملية الحرق تمت من طرف عمر بن العاص وجيشه بأمر من عمر بن الخطاب كما تم حرق مكتبة الفرس فالمجرم يبقى مجرما ولا تنفعه صبغته الدينية فالتاريخ لا يرحمه فلا يوجد استعمار حلال وآخر حرام مادام الفعل واحد القتل والسلب وانتهاك الأعراض والسبي والتدمير والتخريب ومادام الهدف واحد هو السيطرة على البلاد والإستلاء على الممتلكات وفرض الجبايات والضرائب ولا يوجد مستعمرين من الملائكة وآخرون من الشياطين فكلاهما واحد فلا تطمسون الحقائق باسم الدين لتقنعوا السدج والمغفلين وما أكثرهم الذين يحتاجون إلى صعقة كهربائية توقضهم من غفلتهم
المصدر:مواقع ألكترونية