“ الغزوات” العربية في روايات المغلوبين: “غزو إيران
من بين البلاد “التي تعرضت للغزو العربي الهمجي”، كانت إيران فريدة، ذلك أنها احتوت على دين قومي إن صح التعبير… دين تتشابك مؤسساته مع مؤسسات الدولة، حد قيام الكهنة الزراديشتيين أحيانا، بالإشراف على جباية الضرائب، وأداء كبار رجال الدين مهمات مستشاري الملك.
لا بد أن نشير بداية إلى أنه، خلاف حالتي سوريا ومصر، تشح المصادر التاريخية الإيرانية، المدوَّنة خاصة، التي تسبق “الفتح العربي” لإيران وتعقبه…
هذه الحالة امتدت لما يزيد عن قرنين، وقد سَمّاها المؤرخ الإيراني الحديث عبد الحسين زراينكوب بـ”قرنين من السكوت”.
هذا “الصمت الفارسي” لم ينته سوى مع بداية تدوين الأدب المتراكم في الذاكرة الشعبية الشفهية، الذي وصلت ذروته مع الفردوسي وملحمته “الشاهنامة”، التي أعطت صورة جلية عن وجهة نظر شرائح واسعة من الإيرانيين حيال العرب، وما آلت إليه إيران في ظل الإسلام.
بالمناسبة، “الفرس” و”المجوس” كمفردتان تعمان الأدبيات القديمة، ليستا دقيقتين في تحديد ماهية الشعوب التي عاشت وما زالت على الهضبة الإيرانية وما أحاط بها من مناطق، لذا سنسمي هؤلاء إيرانيين.
آية ذلك أن فارس إقليم يقع جنوب غربي إيران، كانت لسكانه أدوار محورية في تاريخ وثقافة إيران القديمة والحديثة. ومع أنهم هيمنوا على باقي الأقاليم الإيرانية، إلا أنهم ليسوا جميع الإيرانيين.
أما المجوس، التي يقصد بها المؤمنون بالديانة الزرادشتية، فتعني تحديدا طبقة معينة من الكهنة، كما أنها ليست صحيحة عند تناول الإيرانيين كشعوب تنتمي إلى بيئة ثقافية واحدة.
أول لقاء في “الغزوات” بين الجانبين؛ أي الإيرانيين والعرب، كان في معركة الجسر… وانتهى بهزيمة العرب.
ثم كان أن حقق هؤلاء ثلاثة انتصارات كبرى في القادسية ونهاوند وجلولاء، أدت إلى قصم ظهر الإمبراطورية الساسانية، التي كانت تكابد تبعات هزائمها المتتالية أمام البيزنطيين في صورة صراعات داخل البيت الحاكم.
اصطدم العرب بالجيش الإيراني في معركة نهاوند (قرب مدينة همدان الحالية) في ربيع أو صيف عام 642م… وقد أملت ذلك في الواقع ضرورة منع الإيرانيين من شن هجوم مضاد، وأيضا الحصول على مزيد من الجزية والأموال.
تلك المعركة حشد الإيرانيون جيوشهم لخوضها من كافة أنحاء البلاد، وأدت الهزيمة فيها إلى انتهاء المقاومة الإيرانية المنظّمة، لتحل محلها اشتباكات ذات أهمية أقل بجانب عدد من المعاهدات مع الحكام المحليين.
وفي حين يقول مصدر زرادشتي إن العرب “أحرقوا ونهبوا بيوت البسطاء وأملاك السادة” أثناء تقدمهم، لا تتحدث العديد من الروايات عن دمار واسع ألحقه “الفتح العربي”.
باحث إيراني معاصر يوضح أن أكثرية المواقع التي تعرضت للدمار هي مراكز عسكرية هاجمها العرب للاستيلاء عليها، بينما كانت التجمعات السكنية التي ضمت عائلات الموظفين الإيرانيين تقع في ضواحي تلك المراكز.
في سياق بحثها عن أسباب الهزيمة، تمنح مصادر المغلوبين في العادة للمنتصرين صفات القوة الخارقة والبأس الشديد، على غرار ما فعله المؤرخون العرب بعد مئات الأعوام أثناء الغزو المغولي.
المؤرخ ميخائيل السرياني، مثلا، يسجل دهشته لتمكن الغزاة العرب من عبور دجلة على خيولهم دون خسارة جندي واحد، ثم اقتحام المدائن بسهولة نسبية.
من بين البلاد “المفتوحة”، كانت إيران فريدة، ذلك أنها احتوت على دين قومي إن صح التعبير… دين تتشابك مؤسساته مع مؤسسات الدولة، حد قيام الكهنة الزراديشتيين أحيانا، بالإشراف على جباية الضرائب، وأداء كبار رجال الدين مهمات مستشاري الملك.
الذي حدث بعد “الغزو العربي”، أن المشهد العام أصبح شديد الاختلاف، في وقت دخلت فيه طبقة رجال الدين الزراديشتيين مرحلة طويلة من انحسار النفوذ وتفككه، لمصلحة القيادات السياسية والدينية المسلمة الصاعدة.
بالمناسبة، تنبغي الإشارة هنا إلى أن الديانة الزرادشتية لم تسقط غداة “الغزو” مباشرة؛ فالصراعات بين الزرادشتيين والمسلمين (عربا وإيرانيين)، امتدت لقرون بعد سقوط الدولة الساسانية.
يؤيد ذلك أن كثيرا من الإيرانيين تشبثوا بدينهم لقرون طويلة بعد “الغزوات”. ثم إن المؤسسات الزراديشتية احتفظت بمواطئ قدم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، حالت دون اختفائها بسرعة رغم خسارتها للقاعدة السلطوية.
لكن المؤرخ الإيراني المعاصر جمشيد تشوكسي، يسجل أن القتال الأعنف، كان يقع عندما يقاوم الزرادشتيون محاولات نقلهم إلى الإسلام على أيدي إيرانيين آخرين… كان العنف أقل حين تحاول السلطات العربية المسلمة القيام بذلك.
بتعبير آخر، كان الزرادشتيون يخضعون لأوامر هذه السلطات من دون قناعة كافية. لكن إذا جرت مساع محلية (من بني جلدتهم) لحملهم على اعتناق الدين الجديد، كانوا يلجؤون إلى الاعتراض العنيف.
مع التحفظ على النزعة الإرادوية في تفسير التاريخ، ثمة ملاحظات مهمة على صعيد نقل الإرث الثقافي من الزراديشتيين إلى المسلمين، خصوصا مع تزايد حالات ودواعي الاحتكاك والتعايش اليوميين، في نوع من التثاقف أملته ضرورات الحوار وانحسار حالة العداء المسلح، والبحث، في الوقت ذاته، عن عناصر ثقافية مشتركة وعن مصالح جامعة.
يرى تشوكسي، مثلا، أن المسلمين المقيمين في الوسط الإيراني استخدموا التشابه بين قصتي أم النبي محمد وأم زرادشت، اللتين “شعّ النور من بطنيهما أثناء حملهما”، للقول إن النبي العربي ورث مكانة النبي الفارسي بين الإيرانيين.
لكن، دون أن يعني ذلك أن السيرة النبوية مشتقة من سيرة زرادشت، إنما فقط لفهم الحاجة التي أملت على المسلمين في مراحل مبكرة من وجودهم في إيران، البحث عن نقاط مشتركة مع الثقافة السائدة.
… وبدا بعد ذلك أن الإيرانيين أكثر قبولا بالإسلام من السوريين والمصريين.
الواقع أن القبول الإيراني بالإسلام اتخذ شكل الإلحاح على تقدم موقع “الفرس” على العرب في الإيمان، سواء عبر تبني أحاديث نبوية تؤكد عمق إيمان الإيرانيين بالإسلام، أو من خلال ظاهرة الشّعوبية الأكثر تعقيدا… وتلك قصة أخرى سبق أن أفردنا لها ملفا خاصا.
الأكيد، كما يوضح تشوكسي، أن انهيار الدولة الساسانية وتقدم سلسلة متتابعة من الدول الإسلامية، لم يكن كارثة سوى على أولئك الذين ظلوا على إيمانهم بالدين الزرادشتي وعجزوا عن التكيف مع المجتمع الذي تغير.
المصدر:مواقع ألكترونية